top of page

"فلاش باك" لشذا شرف الدين وأزمنة البيت المشروخ

روجيه عوطة

النهار، ٠٨/٠١/٢٠١٢ الأربعاء 

العودة السردية التي تتبعها شذا شرف الدين في كتابها، "فلاش باك"، الصادر حديثاً عن" دار الساقي"، لا تنطوي على رجوع رحمي إلى الماضي ومكوث في أرجائه المتروكة على حالها منذ أيام الطفولة. فالكاتبة تفتت ذكرياتها، ثم تنظمها في خطّ سردي يشبه الطريق الذي كانت ترسمه لبيتها الطفولي، ويصعب تحديد وجهته لولا همّ المقارنة بين زمنين. تقبض الكاتبة على تحوّلات المسافة التي تفصل المشهد الإفريقي عن الحكايا البيروتية، وخفة الظهيرة عن غثيان الغروب. تجد في ذاكرتها الرطبة صندوقاً سردياً، فيه قصص كثيرة، تفتحه لتقف مع أختها بالقرب من البحر حيث تبدأ حكاية ذاتية تتسع لأجزاء أساسية من الصيرورة المجتمعية.

مع وصول جميع أفرادها إلى بيروت من أفريقيا، تنتقل الأسرة إلى منطقة الشيّاح، ويدخل الأولاد الصغار الى مدرسة سيدة لبنان في الأشرفية، حيث تلحق الإبنة الصغيرة رفيقتها فادية إلى الكنيسة، مقلّدةً إياها في صلاتها أمام صورة المسيح وتمثاله. تقترب الفتاة من جسمه الرخامي، وتلمسه كأنه لغز يخفي أسراراً كثيرة خلفه. تحاول الشخصيات السردية، المنتمية إلى الأجيال القديمة، أن تتفلت من المعنى المحرّم بتبادل الإشارات في ما بينها كي تخترق الممنوع لغوياً واجتماعياً. إلا أن الإبنة الصغيرة لا تسلم رسائل كانت تبعثها "المدموازيل نجوى" إلى أبيها، مخافةً من عقابه إذا عرف أنها متقاعسة عن واجباتها المدرسية. عندما قرأت الفتاة ما كتبته المعلّمة في رسائلها الغرامية، لم  تتمكن من فك محتواها الدلالي، باستثناء عبارة "فارغ". انعكس لغز التمثال على غموض النص، فاستحال المعنى أكثر التباساً. انقطعت سبل الكلام الإجتماعي بين منطقتين مختلفتين بالهوية الدينية ، وتعطلت العلاقة بين جيلين متغايرين رغبةً وإدراكاً، ولم يبق سوى الفراغ. لا مفر بعد القطيعة التواصلية، من أن يعاقب الوالد إبنته بحرمانها من دروس البيانو، "التي لم أكن نابغة فيها والحقّ يقال، لكنها الساعات الوحيدة التي كنتُ أنسى خلالها التساؤل عما وراء الزجاج المستطيل أعلى أبواب غرف المدرسة". هذا العقاب الفردي أنهت الحرب المندلعة في السبعينات اللبنانية مفاعليه، ليصير عقاباً جماعياً على حيازة الموت الإجتماعي والتردد في رفع الحظر عن محتواه في لغة النص، كما في الرسائل الغامضة، وفي لغة الجسد، المتعلقة بوسامة الأب غير المعلنة.
ضحية العقاب الأكثر عذاباً جيل الكاتبة نفسه، المكابد على تحمل التقسيم والتهجير وإخفاء الوقائع عنه بحجة أنه غير قادر على فهمها. لذا يلجأ هذا الجيل إلى خياله كسبيل وحيد إلى الإنعتاق من التصنيف الطائفي في المدرسة والمجتمع. ففي حصة التعليم الديني، المحظورة على الفتيات المسلمات، تتسلل الفتاة الصغيرة بمخيّلتها إلى الغرف المغلقة، لتشاهد الراهبات وهن يستحممن، متلصصةً على تفاصيل أجسامهن، "إن كان لأثدائهن حلمات أم أنهن خُلقن من دونها. وإذا كانت آباطهن مليئة بالشعر الأسود أم أنهن يزلنه". لا تنضبط الكاتبة في طريق عيّنه الجيل القديم مسبقاً لها، فتنحاز إلى هامش اللاسلطة، وتصبح عنايات، إحدى العاملات في منزل العائلة، مثالها الأبرز عن القوة والجرأة: "كم كنت أتمنى أن أكون مثلها، بلا أم ولا أب ولا عائلة، ولا راهبة أو معلمة أو أيّ أحد يتدخل في شؤوني الخاصة!". أما الذين خضعوا للكبار ووثقوا بتعليماتهم، فكان مصيرهم مثل فادية، "الفتاة المثالية"، المنذورة "للإعتناء ببيت الرب". في أحد الأيام "راحت خطيفة" معه من دون أن تراها صديقتها الراوية التي أعادت السبب إلى كونها "مسلمية" لا تلحظ "النور" على وجوه المسيحيات، "المحبات للرب"، مثل فادية. كرست الحرب اللالقاء بين أبناء الجيل الواحد، الذين انقسموا وتمترسوا خلف مواقفهم الإيديولوجية الطائفية والعلمانية على السواء. البعض احتمى بطائفته المسلحة المتطرفة، والحاقدة على الآخر. الآخرون قرروا، مثل الراوية، أن يكونوا فدائيين، "أجوب راكبة الجيبات ولابسة البذلة العسكرية وفي يدي كلاشنيكوف".
ترصد شذا شرف الدين التحوّل الجذري بين أفراد عائلتها مع انتصار الثورة الإيرانية ودخول صورة الخميني الحماسية إلى المنزل المسلم الشيعي. أوّل الآثار الخمينية، أن "في السنة التي تلت الثورة، مُنعنا من ارتداء لباس البحر وكل ما هو كاشف للحم، وصارت ألبستنا تخضع للمراقبة اليومية... فنحن لم نفهم كيف حصل هذا الإنقلاب السريع الذي حوّل أهلنا من أفراد منفتحين، ولو محافظين، إلى أناس متشدّدين ومتزمّتين". لم تكن هذه التبدلات السلوكية طارئة على المجتمع، فصورة المحظور نفسها، التي أرهبت الفتاة في طفولتها، أخذت شكل تابو جديداً في حضور الخميني المقدس، ليغيب تمثال ويحل مكانه تمثال آخر، يلزم المنتمين إليه ممارسات وطقوساً جديدة، تتناقض مع السلوكيات المجتمعية القديمة، وتضعف الصدع بين الأولاد والأهل: "هكذا اتسعت الهوّة بيننا وبين أهلنا أكثر فأكثر إلى أن أصبحنا غرباء في العديد من الأمور بعضنا عن بعض".
في السادسة عشرة، التحقت الراوية بمركز للتربية العلاجية في شملان الجبلية، أسسته "الست ماري روز" التي اختطفت على أيدي الكتائبيين، وسردت إيتل عدنان حادثة اختطافها في إحدى رواياتها. في صيف 1983، اقتحمت القوات الإسرائيلية قرى الجبل، فاختبأت العائلات في القرية في مبنى الدير الذي أطلقت رشاشات المقتحمين النار عليه، ليرهبوا الناس داخله. تذهب الكاتبة مع إبن عمتها كي يتفقدا البيت، بعد انتهاء الحملة العسكرية، فيشاهدان الجثث المتروكة في الطريق المقطوع بطابور الدبابات، مثل رأس إحدى الجثث، الذي راحت الراوية تفتش عنه إلى أن وجدته.
تركت شرف الدين لبنان إلى سويسرا، وعندما عادت بعد عشرين عاماً، وجدت أن العقاب المجتمعي اشتد أكثر. البيت الوهمي، الذي كانت ترسمه على أوراق دفاترها المدرسية، ازداد سواداً وظلاميةً. لذا تنهي كتابها برسالة "إلى مدموازيل نجوى"، تبلغها فيها عن موت تلك الرسائل التي بعثت بها إلى أبيها قبل ثلاثين عاماً، وعن تعمق الشق بين المسيحيين والمسلمين، كما بين شرق المدينة وغربها. الأب ندم على عدم تلقين أولاده دروساً خاصة بدينهم، تلافياً للإحتكاك بكل ما هو غريب عنهم، والأم تحجبت ككل نساء العائلة. الحفلات الصاخبة في منزلهم أصبحت جلسات أدعية، واجتاحت صور رجال الدين كل الأرجاء: "صحيح أني تركت منزل والديّ حين كنت في السادسة عشرة، لكني لم أكن أشعر بغربة عنه حين كنت أزورهم. اليوم صار بيتهم يشبه بيوت أناس كثيرين من طائفتهم، أكثر مما يشبه المنزل الذي كبرت فيه". تأمل الكاتبة أن تجمع الآنسة نجوى بأبيها، لكنها تعرف أن الأمكنة الجامعة بين المختلفين قد تقلصت حتى أنها أزيلت عن خريطة البلد.

  • Grey Facebook Icon
  • Grey Vimeo Icon
  • Grey YouTube Icon
  • Grey Twitter Icon

© Chaza Charafeddine, 2016

bottom of page