وعاء للذاكرة، وعاء للاعتراف شذا شرف الدين: مجموعك كله هو الذي يكتب
نديم جرجوره، جريدة السفير، ١٦/٢/٢٠١٥
لم يكن حواراً بالمعنى المهنيّ البحت، بل دردشة مفتوحة على مفاتيح قليلة لقراءة أخرى، او لمُشاهدة مختلفة. «حقيبة بالكاد تُرى» (قصص قصيرة، «دار الساقي»، الطبعة العربية الأولى، 2015) لشذا شرف الدين دافعٌ للقاء يجمع النص بالصورة السينمائية، وينطلق من الكتابة كي يبلغ الصورة المتحرّكة. قبل ثلاثة أعوام، تُصدر شرف الدين «فلاش باك» («دار الساقي» أيضاً، الطبعة العربية الأولى، 2012): لا توصيف له على الغلاف الأول. أشبه بتداعيات ذاتية بحتة، تتّخذ من ذكريات قديمة ذرائع لكتابة لا تستكين إلى المألوف، بقدر ما تنجذب إلى المغاير. الكتابة باللغة العربية في الكتابين تمتلك خصوصية أساليب أجنبية في السرد والبناء والوصف. نصوصهما مشغولة بحرفية صائغ مولع بمجوهراته، وحريص على ابتكار أجمل ما فيها، بتكثيف واختزال لا يفقدان جمالاً أو سلاسةً أو عمقاً إنسانياً.
قراءة ممتعة
«فلاش باك» ذاهبٌ بالنصوص إلى ماضٍ ذاتيّ. «حقيبة بالكاد تُرى» متقدّم باتجاه الراهن. أفريقيا ولبنان وحكايات مرحلة مرتبكة وسائرة إلى خراب أو انكسار، عناوين الكتاب الأول. برلين وناسها الألمان والعرب والأتراك وخبرياتهم المشحونة بأساليب عيشهم، مسارات الكتاب الثاني. لقاء شذا شرف الدين محاولة لإضاءة لحظات أو حالات. «متعة القراءة» (عنوان الترجمة العربية لكتاب الفرنسي دانيال بِناك «مثل رواية») فعلٌ ملموس يجعل اللقاء أسلس من أي حوار مهنيّ. تأتي شذا إلى الكتابة من الرقص، وتضع السينما في واجهة اشتغالها. غلاف كتابها الثاني لقطة من «زواج ماريا براون» (1979) للسينمائي الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 ـ 1982). في قصة «برلين، زيارات متأخّرة»، تروي شذا أن صديقتها لوتسيا تختار فيلماً لفاسبندر مكتوب على غلافه: «هناك أناس لكي يعيشوا ما يبدو لهم جديراً بأن يُعاش، يلعبون أدواراً ليست في الواقع لهم. هذا بالطبع شيء حزين إلاّ أنه، بحسب نظرة أخرى، شيء جميلٌ (ص. 23). تقول شذا ـ الراوية إن هذا قولٌ لفاسبندر عن فيلمه «الحبّ أبرد من الموت» (1969). تُضيف أنها، هي الراوية، تُفكّر أن فاسبندر سيصنع فيلماً عن لوتسيا، لو أنه تعرّف إليها، تدور أحداثه حول شخصية تردّد باستمرار: «ربما، لا أعرف، ممكن، سنرى، الوقت، كيف لي أن أعرف». تضع للفيلم المتخيّل عنواناً: «حيرة لوتسيا القاتلة للوقت والحب». لكن الفيلم عبارة عن مشهدين، أول وأخير: «امرأة تجلس أمام المرآة، تنظر في عينيها الحمراوين، تربط شعرها إلى الخلف، تقوم عن كرسيها، تُعدّل تنورتها المعكوسة هناك، تستدير وتخرج من الغرفة». (ص. 23). ينتهي هكذا، تماماً كما يبدأ.
للوتسيا حضورٌ في ذات الكاتبة شذا شرف الدين. لدى الأولى مأزق قاسٍ في علاقتها بزوجها فيليب. تسألها الراوية: «لماذا لا تنفصلان، سكنياً على الأقلّ»؟ تجيبها لوتسيا، من بين أسباب أخرى أقلّ أهمية: «ربما لأن الكراهية أقلّ قسوة من الوحدة».
تقول في لقائي معها: «لوتسيا شخصية فعلية. إنها صديقة لي. حالتها كلّها توحي لي بقول جملة كهذه. أفهمها من هذا المكان تحديداً. هي لم تقل هذا تماماً، بل توحي لي به. «ربما الكراهية أقلّ قسوة من الوحدة»: هذا يحتاج إلى حديث طويل. هذه الشخصية تخاف الوحدة إلى هذا الحدّ. الكراهية تأكل من الداخل، مع هذا هي تقبل بها بدلاً من أن تكون لوحدها، وتنظر إلى المرآة. هذه الشخصية توحي لي بهذا». تُضيف أن لوتسيا «لن تفعل شيئاً». تتخيّل فيلماً عنها يبدأ وينتهي بلقطة واحدة (لا شيء يتغيّر). لوتسيا مستعدّة لتحمّل الكراهية على الوحدة، أي على مواجهة وحدتها وحالها. إلى هذا الحدّ صعبة الوحدة عليها».
تأتي شذا شرف الدين إلى الكتابة من دراستها «التربية المختصّة» في «سافيني» (سويسرا). تأتي من دراسة رقص الـ «يورشيمي» في «هامبورغ» (ألمانيا). تمضي أعواماً عديدة في ممارسة الرقص وتعليمه في سويسرا وبيروت. تُقيم في برلين أعواماً أخرى، عاملة في المجال الثقافي (تنظيم تظاهرات فنية متفرّقة هناك كما في بيروت، متعاونة مع مؤسّسات ثقافية ألمانية ولبنانية). تعود إلى بيروت في العام 2006. «فلاش باك» أول كتاب. «حقيبة بالكاد تُرى» كتابها الثاني. أسألها: «إلى أي حدّ تتداخل شخصيتك بوعيها الثقافي والمعرفيّ في شخصية الراوية أثناء الكتابة؟ الذات أو الـ «أنا»، في مقابل الـ «هو» أو الـ «هي»؟ أنت والشخصيات التي تعرفين وتعيشين معها أو قريباً منها؟». تقول إنها لا تُخطّط لهذا أبداً: «عندما أكتب، تظهر الذاتية. أستعين بصيغة الـ «أنا»، وأشتغل. لا «هي» ولا «هو». قصّة ثابتة. وعاء للاعتراف. إلخ. فعلاً لم يكن مقصودٌ الاشتغال بـ «هي». تبدأ الفكرة. أعيش حادثة معينة أرغب في إعادة كتابتها. تصبح شيئاً آخر كلّياً، و»هي» تصير «أنا». وأنا أصير شيئاً ثانياً كلّياً. بحسب الفكرة التي أريد قولها: إما تبقى الـ «أنا» أو الـ «هي» بشكل تلقائي». ترى أن هذا كلّه يحدث في البداية، لكن «لاحقاً، يُصبح الأمر مقصوداً. أزور صديقة لي. لكني أراها متحوّلة إلى امرأة أخرى لا تشبهني، لا شكلاً ولا شخصية. ربما آخذ جزءاً مني إليها أو العكس. هي «سئيلة» في بعض الأمور. هكذا أجعلها. إنها شخص آخر كلّياً بالنسبة إليّ. لكن المشترك بيننا كامنٌ في أننا لا نؤمن، نحن الاثنتين، بالأبراج». تقول شذا شرف الدين أيضاً إن الشخصيات كلّها «محتارة إزاء كيفية الدخول إلى هذا العالم. هذا ما أقصده. هنا أبدأ بصنعها، فلا تبقى المسألة عفوية أبداً».
صُوَر
أسألها عن الكتابة بحدّ ذاتها: «يصعب عليّ فعلاً أن أفصل أثناء الكتابة. عندما تكتب، فإن مجموعك كلّه هو الذي يكتب: تجاربك، النصوص التي تقرأها، والأعمال التي تستمع إليها، والأحاديث التي تسمعها. أنت ككتلة كاملة مكوّنة من أفكار وأحاسيس وتجارب إلخ. هذا كلّه يكتب. بهذا المعنى، يُصبح صعباً الفصل بين الأحاسيس الذاتية والأحاسيس المتخيّلة. بالإضافة إلى أن هناك نوعاً من حلم، وفي الوقت نفسه هناك لحظات واضحة ـ يقظة وأنت تصنع القصة. أجل، هناك لحظات أقول إنها حلم. أكتب كمن يحلم. وأسأل: كيف أحكي عنها؟ لا أعرف، لأن المسألة ليست تماماً واعية أو غير مقصودة. هناك الـ «مقصود» وهناك ما هو نصف حلم ليس حاضراً تماماً. عندما تقرّر، يتدخل الوعي. الجملة المتعلّقة بالكراهية والوحدة ربما تظهر هكذا فجأة وأنا أنظر إلى لوتسيا وهي تحكي أو تتصرّف أو تتحرّك. الجملة ربما مستوحاة منها». الحلم؟ الوعي؟ التداخل الملتبس والعميق والغامض بين الحلم والوعي؟ انعدام الحدّ الفاصل بينهما؟ تقول شذا: «القصّة الأولى في «فلاش باك» (Prelude) قد تُجيب على تساؤلات كهذه: فيها، أكتب عن أشياء كنتُ في الثانية من عمري عندما حدثت. أتذكّر أفريقيا. أتذكّر الرجل الذي كان يروي لي وأنا أجلس على ركبتيه. لكنّي لا أستطيع أن أتذكّر ما إذا كانت الخبريات صحيحة أو لا. ما الذي رواه؟ هل هو صحيح أو لا؟ لا أعرف. استمعتُ إليه. هذا مؤكّد. هناك وعاء للذاكرة، وإن كان صغيراً أحياناً. لا أعرف. بعد 40 ـ 45 عاماً، تطلع هذه الصُوَر. لا أعرف. عندما كنت أكتب، كنت أرى وجهه، وأشعر أن هذا كلّه صحيح». تقول إنها تعرّفت ذات مرة على شخص مغربي ـ أفريقي: «قرّرت أنه هو المعادل للأفريقي الذي روى لي حكايات. لكن، هل المخيّلة مستوحاة من مخيلة أخرى، أو أنها جديدة؟ لا أعرف. هل هناك شيء من الطفولة «طلع معي» وأنا أكتب؟ لا أعرف. استعارة قصص قديمة؟ لا أعرف».
يأتي دور السينما. أو بالأحرى الكتابة بطريقة أشبه بتصوير سينمائي. كتابة تحوّل السرد إلى مشهد، وتفتح المشهد أمام القارئ فيشعر كأنه يُصبح فيه: «المسألة مرتبطة أكثر بنمط الكتابة لديّ. علاقتي بالسينما وبالصُور عفوية جداً. علاقتي بالكتابة صُورية. عندما أكتب عن شخص يجب أن أراه وأنظر إليه، وعندما أكتب عن حادثة معينة يجب أن أراها. هناك من يكتب بشكل مجرّد. أنا لا أعرف كتابة كهذه». حتى السيناريو المنشور في آخر الكتاب «وكالة ماريا للحبل بلا دنس» (ص. 127) يُشبه القصص السابقة عليه بطريقة الكتابة والوصف وتركيب المشاهد: «ماريا هي أنا إلى حدّ ما»، تقول شذا شرف الدين، مضيفة أن السيناريو مرفوضٌ مرتين من قِبل محطتين تلفزيونيتين ألمانيتين: الأولى لأن «صورة الرجل عاطلة جداً ولن نجد بسهولة شريطاً لإنتاجه». الثانية لأن «صورة المرأة سيئة جداً وسوف نجد صعوبة في إيجاد منتج شريك». السيناريو عبارة عن شخصيات مختلفة، وعن وصف لشخصيات تعمل في الوكالة المختصّة بإنجاب طبيعي بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض: «قيل لي إنه يتوجّب عليّ نشره بسبب «حقوق النشر»، ولكي أحتفظ بحقّي فيه. لكنه أساساً جزء مني، ومن كتابتي وحياتي وعيشي».
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ ١٦/٢/٢٠١٥على الصفحة رقم ١٤ – ثقافة