top of page

كوميديا إلاهيّة

يوم سألني بولس إن كنت أعرف رساماً من الذين يرسمون شهداء المقاومة الإسلامية كي يرسم صورته كشهيد، لم أكن أعرف أن هذا السؤال العرضي سيؤدي بي إلى اكتشاف عوالم الفن الإسلامي وإلى متاهات الهوية الجنسية وميولها والتشعبات المتفرعة عنها. يومها أطلعني بولس على كتاب يحتوي على صور فنية من المخيّلة الشعبية في البلدان الإسلامية، قائلاً إنه يريد أن يُرسم بالجمالية الشعبية ذاتها التي نجدها في هذا الكتاب. 

أول ما لفت نظري فيما كنت أتصفح الكتاب، صورة البراق. فقد عمد الفنانون الشعبيّون، سواء كانوا من باكستان والهند أو من مصر وسوريا، إلى تصوير النصف الإنساني للبراق على شكل أنثى متبرّجة ومزيّنة بحلى وقلائد وبشعور طويلة. حتى أن البراق نفسه كان يتهدّل الخلخال من أرساغه الأربعة. ذكّرتني صورة البراق الأبيض، وتحديداً ذاك المرسوم في الهند منتصف القرن الماضي، بالنجمة اللبنانيّة نجوى كرم، إذ رأيت يومها ملصقاً ضخماً كتب عليه "لؤلؤة الخليج" للمغنية الشهيرة، تبدو فيه كرم بفستانها الأبيض، على شكل حصان. التُقطت الصورة من الخلف وقد التفتت كرم إلى المصوِّر ناظرة نظرة حياديّة عديمة التعبير، ما جعلها تبدو أقرب إلى كائن افتراضي هائم أو زائغ. لكن ما يذكِّر بالحصان في صورتها كان استدارة مؤخرّتها التي قصدت أن تظهرها على شيء من الارتفاع بحيث تغدو مركز الصورة.

ومن ينظر إلى صور النجمات هؤلاء، يتخيّل أنها أقرب إلى كائنات تتغذى من مواد لا تقيم على كوكبنا، خصوصاً أن هيئاتهنّ تتغير باستمرار بحيث يصعب على متتبع أخبارهن تحديد هوية فنانة معينة. وهذا، مرة أخرى، ما يضفي صفة "إلهية" عليهن ويجعلهن أشبه بكائنات ميثولوجية كالإله "كريشنا"، الذي لا حدود للصور التي يتجلى فيها. 

رحت بعد ذاك أبحث عن صوَر مغنيات أخريات صُوِّرن وهن على شكل حصان وشرعت أزور مواقع مغنّيات لبنانيّات أخريات. وفي السعي هذا، لم تفلت واحدة منهن: حتى نانسي عجرم التي توصف عادة بالبراءة، اتخذت وضعية "الحصان" في ملصق دعائي قديم عثرت عليه عند أحد بائعي السيديات. وكان واضحاً أن استدارة المؤخرة الذي تريده الفنانات لصورهنّ هدفه التذكير بمؤخرة الأحصنة. 

تساءلت، لماذا اختار العرب أن يجعلوا من الحصان كائناً طائراً ينقل النبي من مكة إلى المسجد الأقصى في القدس ولم يختاروا النسر مثلاً، وهو بحكم طبيعته، المرشح الأول بين خلق الله للقيام بهذا الدور؟ ورحت أبحث عن مكانة الحصان عند العرب فوجدت أنها كانت متميزة بما لا يقاس عن سائر الحيوانات الجميلة. وإنما القصائد في وصف الشعراء للفرس والتي فوجئت بكثرتها، أكبر دليل على ذلك. وهم وصفوا الفرَس بالتعابير نفسها التي استخدموها للتغزّل بالمرأة. حتى في الوصف "العلمي" للفرس الأصيل عند العرب، نجد تعابير تكاد تكون هي نفسها التي تستخدم في وصف جسم المرأة المرغوب. فمثلاً، وبحسب أحد مصادر غوغل، "يجب أن تكون عظمتا الإلية متباعدتين وبارزتين، وأن يكون الصدر مرتفعا، رحبا، ظاهر العضلات، صلبا، لا غائراً ولا مجوفاً، وأن تبرز عضلتان تشبهان النهدين وتعرفان بنهدتي الصدر، وأن تكون عيناه كبيرتين مستطيلتين صافيتين براقتين كحلاوين شاخصتين مملوءتين حدّةً، رقيقتي الجفن، بعيدتي النظر مع اتساع ما بينهما...". 

 

عودة إلى الأصل

في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت تسنّى لي دخول الطابق السفلي المخصّص للكتب النادرة، وإلقاء نظرة على الكتب الفنيّة الخاصة بالمنمنمات الفارسيّة العائدة إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر. وبدا لي أن ثمة اختلافاً كبيراً بين رسومات الفنانين الشعبيين في أربعينات القرن الماضي، والتي رأيتها في كتاب صديقي بولس، وبين الفنانين الفُرس. وهذا الاختلاف لم يقتصر على الجماليّة المستخدمة في الرسوم، بل شمل أيضاً تصوير البراق. ذاك أن الفنانين الشعبيين صوّروا نصفه الإنساني على شكل أنثى، فيما فنانو القرن السادس عشر صوروه على شكل إنسان تلتبس هويته الجنسية. 

وفي سياق البحث في الفن الإسلامي، عرّفني أيمن، صديق ملهم آخر، على كتاب في الفن الإسلامي الموغالي سوف يلعب الدور الأهم في هذا المشروع، وما أقصده استخدام العديد من المنمنمات المصوّرة في الكتاب، كخلفيّة للصوَر الفوتوغرافية للأشخاص الذين شكّلوا أساس المشروع. 

وبحسب الباحثة والكاتبة أمينة أوكادا*، تأثّر الفنانون الموغاليون بالفن الأوروبي الذي تعرّفوا إليه مع قدوم المبشّرين اليسوعيين إلى الهند. وفي العديد من التصويرات الموغالية، تطالعنا مواضيع مستوحاة من الفن الأوروبي من دون أن تؤخذ بعين الاعتبار الخلفية الدينية لتلك التمثيلات. 

وتنوّعت موضوعات الرسم الموغالي الذي لاقى عصره الذهبي خلال القرن السادس والقرن السابع عشر، حيث اتّجه أغلبه إلى تصوير حياة الإمبراطور، وبورتريهات الأباطرة، ورحلات الصيد، واللقاءات التاريخية، فضلاً عن الأعراس والحروب.

 

 

الرجل الأنثى

خلال تصفحي كتب الفن الإسلامي العائدة إلى تلك الحقبة، بدا لي أن فناني فارس، وهم أساتذة الفنانين الموغاليين، اعتمدوا على أسلوب في الرسم يؤنّث ملامح الرجل، وأن هذه الجمالية كانت رائجة في تلك الفترة. هكذا لم تلتبس صورة البراق فحسب، بل التبست أيضاً الشخصيات الذكرية، كشخصيتي جهانجير وشاه جهان وغيرهما من سلاطين الموغال الهندية: لقد ظهر فيها شيء من النعومة التي تذكّر بالغلام. واستناداً إلى أفسانيه نجمابادي في كتابها "نساء مع شارب ورجال من دون لحة" ، لم تكن موضوعة الجمال في القرن التاسع عشر في قاجار (إيران) حكراً على المرأة بل شاركها فيها الرجل وساواها، وهذا إن لم نقل إن الأخير حظي بالقسط الأوفر من ذلك، وتحديداً من سمّي "الأمرد" أو الغلام، وهو الشاب الذي لم تنبت له لحية بعد. وتقول نجمابادي إن الرجال صُوروا بملامح تشبه، إلى حد كبير، ملامح النساء، أما الشيء الوحيد الذي قد يميِّز الرجل عن المرأة فكان زينة الرأس مثلاً. وهذا فضلاً عن أن "الجمال الذكوري والإيروسية الذكورية اعتُبرا مشاعر سامية". 

وبحسب خالد الرويهب في كتابه: "قبل المثلية الجنسية في العالم العربي – الإسلاميّ، 1500-1800 ، كان الانجذاب إلى الشاب الذي لم تظهر لحيته، مقبولاً تماماً، وهو مما يسمح لنا بالاستنتاج أن العرب اعتبروا "الأمرد" بمثابة "جنس آخر". وهم، لذلك، لم يروا في إقامة علاقة إيروسية معه "عاراً". وكانت آراء القضاة آنذاك، متفاوتة في صرامتها حيث أن التقبيل والملامسة و"المفاخذة" مثلاً لم تصنف لواطاً. أما ما صُنِّف "لواطاً"، وبدا بالتالي غير مقبول، فكان العلاقة الجنسية الصريحة بين رجلين. 

وهنا نص يذكره الرويهب نقلاً عن العالم والحقوقي السكولائي الحلبي علي الدباغ الميقاتي (1760): " [الأمرد:] شابه في إغفال اللحية أهل الجنة .... رضي الخالق عليه فلم ينبت له ما يشين خديه فمرآة وجهه صافية كالسماء الصاحية .... يقول: أنا الأملس الغض وذو الخد الناعم البض وجهي أثير وجمالي وثير ومن يساوي بالشوك والشكر الحرير؟". **

 

ويذكر الرويهب، كذلك، أن الافتتان بجمال الغلمان واشتهاءهم اعتُبرا شيئين مختلفين. وهو يقدّم المثل التالي نقلاً عن  الحقوقي والفقيه أبي حامد الغزالي (1111-1058): "ولا تظنن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة فان قضاء الشهوة لذة أخرى قد تحب الصور الجميلة لأجلها وإدراك نفس الجمال أيضا لذيذ فيجوز أن يكون محبوبا لذاته..."

 

الكتاب الثالث

اختُتم بحثي عن البراق، بكتاب "معراج نامه" الذي أهدتني إياه صديقتي عليا. والكتاب يصوّر رحلة النبي محمد إلى السماء على ظهر ذاك الكائن الميثولوجيّ. إنّها الرحلة المعروفة بـ"الإسراء والمعراج". لقد عنونت المشروع بـ"كوميديا إلهية" تبعاً لما أوحت لي به الرسوم الموجودة في هذا الكتاب من تشابه مع ملحمة دانتي الشهيرة التي كتبها بين 1308 و1321. ويرجّح بعض الأكاديميّين أن دانتي إنما تأثّر، بدوره، بحكاية الإسراء والمعراج وبكتاب الشاعر والفيلسوف العربي أبي العلاء المعرّي (973-1057) "رسالة الغفران"، التي يصف فيها أحوال الناس في الجنة وفي النار. 

 

 

 

تنفيذ المشروع  

اعتمد عملي أساساً له ذاك التصوير الشعبي الذي ظهر في أربعينات القرن العشرين، في كل من إيران والهند وأفغانستان ومصر، والذي دارت مواضيعه حول الكائنات الميثولوجية، كالبراق، أو تلك التي تملك رمزيّة معنويّة أو تراثيّة كالطاووس. أما المنمنمات المستعادة فمنتقاة في غالبها من الفن الإسلامي الذي أنتجته الحقبة الموغاليّة، ومن المنمنمات الفارسيّة التي صُوِّرت ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. وقد اقتصر اهتمامي، في ما خص الشقّ الفارسي- التركي منها، على مخطوطة "المعراج نامه" التي صدرت عن مدرسة هراة في خراسان. كذلك عدّلت الرسومات الأصلية وفقاً لمضمون "المشهد" أو لما يتماشى بصرياً ومضموناً مع شخصية وقصة الشخص الذي اخترته.

لقد كان هدفي في البدء إجراء مقارنة بين جماليّة المخيّلة الشعبيّة في تصوير البراق في بدايات القرن الماضي وبين الجماليّة في صور الفنّانات الشعبيّات التي يسعى أسلوب التسويق لتقديمها بوصفها "الجمال الخالص" وتحويلها إلى كائنات ميثولوجية جديدة (البراق الجديد). 

لكني بعد محاولات عدّة قررت العودة إلى الأصل والعمل وفق الجمالية نفسها التي اعتمدها فنانو القرنين السادس عشر والسابع عشر، أي عبر تصوير أشخاص يمثلون جمالية مركّبة، لجهة تجسيدهم الجنسين (الذكر والأنثى) في آن واحد وإحالتهم، في هذا السياق، إلى "كائنات إلهيّة" أو كائنات ميثولوجيّة حديثة. 

بعض الذين عملت معهم يعرّفون أنفسهم "برجال أحبوا أن يلعبوا النساء" من وقت لآخر أو بـترانسفستايت أو (cross-dresser)، أو بعابري جنس (Transsexual) أو عابري جندر (Transgender) أو ببساطة رجال، لا يهابون إظهار الأنثى التي في داخلهم. وأكثر ما لفت نظري تلك النظرة الخاصة بهؤلاء الأشخاص التي جاءت مليئة بالمعاني، فيها إغواء المرأة وفيها الذكورة من دون الذكورية، وفيها نوع من الصفاء الطفولي. إنها نظرة مدهشة ومربِكة في آن. لا أدري بالضبط ماذا خاطبت فيّ لكنْ من المؤكّد أنها أوضحت لي لماذا اعتدت أن أجد في وجوه الرجال والنساء المُجمع على جمالهم تعبيراً مضجراً في أغلب الأحيان. وغدوت أفهم من أين يأتي هذا الافتتان بالغلام، أي بالفتى/الفتاة، وأتساءل: هل مصدره اجتماع الجنسين في كائن واحد، الأمر الذي يكمّل صورة الإنسان؟ أم أن نقص تشكّل الجنسانية لدى "الأمرد" يوحي بالنقاء، وهو مرادف الحيوية والشباب (وجه صافٍ، جلد نقي، شكل متناسق، الخ)؟. وهل لهذا السبب تبعث هذه النقاوة "اشتهاء ناعماً" في النفوس، وبالتالي يغدو اشتهاء الغلمان أمراً مقبولاً؟ لا أملك جواباً على هذا السؤال ولكن من المؤكد هو أنني وجدت في أولئك الأشخاص المرادف "للجمال الإلهي".

شذا شرف الدين، تشرين الثاني ٢٠١٠

 * “Women with Moustache and Men without Beards”, (California, 2005)

 “Before Homosexuality in the Arab-Islamic World, 1500-1800”, (University Of Chicago Press, 2009).

 ** من كتاب “سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر " لمؤلفه المرادي.

 من ربع المنجيات من كتاب "إحياء علوم الدين" لأبو حامد الغزالي؛ الكتاب السادس"كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا"؛ فقرة من: "بيان حقيقة المحبة وأسبابها وتحقيق معنى محبة العبد لله تعالى."

شكر خاص لبولس خضر،حازم صاغيّة، ألكساندر بوليكيفيتش، كريكور جابوتيان، رندة العمري، تينا لاديفا، مودي مودي، جورج زوين، أيمن بعلبكي، عليا كرامي، وصلاح صولي.

  • Grey Facebook Icon
  • Grey Vimeo Icon
  • Grey YouTube Icon
  • Grey Twitter Icon

© Chaza Charafeddine, 2016

bottom of page