top of page

فـلاش بـاك

شذا شرف الدين

"...كان يمشي في ذاكرة

كأنما يسير في معرض

لا يملك فيه شيئاً"

 

(عبّاس بيضون/ الوقت بجرعات كبيرة)

إلى لمى، أختي

المحتوى

 

Prélude  

بيروت ۱۹۷۰- ۱۹۷٥

• مادوموازيل نجوى

• أبي 

الـ Catéchisme

• بيوت ليست لأحد

• إسلام / مسيحية

• فادية

• الشباب / نيسان ۱۹۷٥

• صور

• الانتقال الرابع

• زراعة الأقحوان بالملايين في الشيّاح 

• الخميني - كو ألانغو

• فراس نايلة مايا جهاد

• ماري روز وعايدة

• اجتياح ۱۹۸۲/"التذكرة"

• إلى مادوموازيل نجوى

Prélude

هناك في أفريقيا، جلس رجل نحيل ذو شعر أبيض ووجه أسود تحت سقف من قصب على كرسي من خشب وفي حضنه فتاة صغيرة تنظر في شعره الأبيض وتسأله كم عمره فيقول لها: كثير، كثير... ثم يخبرها قصصاً عن رجل يحكي قصة رجل آخر، يُروى أنه كان يحرث الأرض يوم وجد صندوقا خشبيا مرصّعاً بحبّات الياقوت وفيه من الذهب الكثير، فأتته الذئاب فصرعها، فطلعت له الثعابين فقتلها، فانقضّت عليه النمور مكشّرة عن أنيابها، فحاربها، فجاءه رجال القبائل فأرداهم جميعهم أرضاً.

الفتاة تصغي، تنظر في الدوائر البيضاء الخشنة وفي تجاعيد الجبين ثم في العيون التي تتسع حيناً قبل أن ترخي جفونها فتنغلق... وتغوص مجددا في الشعر الأبيض الذي يشبه خواتم فضّية فترى كيف تغلّب الرجل على الذئاب ثم على النمور ثم على رجال القبائل الأخرى، وكيف وضع الصندوق تحت إبطه وفرّ من الذئاب والنمور ليصل إلى زوجته فيفتحان الصندوق سوياً ويجدانه مليئاً بالكنوز... تفرح الفتاة، تنظر إلى الدوائر الفضية المرسومة على رأس الرجل الأسود وتخطّ بإصبعها دائرة في الهواء وتبتسم. 

تعود الفتاة إلى بيت الأبوين حيث ينتظرها العقاب على خروجها... لكنها في اليوم التالي تعاود الكرة وتذهب إلى الرجل ذي الوجه الأسود والشعر الأبيض واليدين البيضاوين كي يخبرها قصة الرجل الذي وجد صندوقاً في الأرض.

في بيت الأبوين الكلّ نيام. إنها الظهيرة، التي ترمي الجميع في أسرّتهم لشدة الحرّ. الأخت تلعب في غرفتها، الفتاة تكتشف كيس "بونبون كاراميل". تفتحه. تخرج الفتاتان إلى الشرفة وترميان بورق "البونبون" إلى الطريق وتتتبعان بفرح الأوراق الذهبية التي تتأرجح بخفّة في الهواء... الأولاد تحت الشرفة يصيحون "أعطنا، أعطنا من هذا...". تلتقط الفتاة كيس "البونبون" الشفّاف وتفرغ ما فيه على الأولاد. يعلو صياح الأولاد، يهتفون "أعطنا بعد، أعطنا بعد...".

ما من بعد! تأتي الصرخة من الخلف، يليها عقاب جديد... تتألّم الفتاة فتبكي لأختها التي تواسيها بنظرة مَن لم يفهم لماذا أختها وليست هي.

في أفريقيا الناس قليلون، الطريق الرملية غالباً ما تكون فارغة. الرمل حام، يحرق الرجلين. الفتاة تحب هذا الحريق، تشعر حين تحترق رجلاها بأن الأرض تحبها، لذلك تشاطرها حرارتها... في الطريق نحو كوخ القش، تمشي الفتاة بخطوات متأنيّة، تتوقف أحياناً لتتأكد من أنّ أحداً لا يتبعها، ترسم في الرمل صندوقاً، فدوائر، تنظر إلى الوراء مجدداً ثم تنسى، فتسرع نحو الكوخ حيث يجلس الرجل ذو الوجه الأسود والشعر الأبيض. تركض إليه وهو يفتح ذراعيه، ترى كفّيه الضخمتين وتشعر بدفئهما حين يلقاها بهما وهو لا يزال جالساً على الكرسي. يُجلسها على حضنه، تتكىء برأسها على ذراعه وتغور عيناها في دوائر شعره البيضاء. هناك ترى امرأة الرجل التي، فيما هي تفتح الصندوق، تأتيها الأفعى من الشباك وتنفث سمّها ثم تقول لها إنّ عليها أن تعيد الصندوق إلى الأرض وإلا سوف يموت أولادها جميعاً. يلتقط الزوج قضيباً ثخيناً يريد أن ينقضّ به على الأفعى لكنها تتسلل في لمح البصر إلى داخل التراب وتختفي... يفتح كفه البيضاء الثخينة، تنظر الفتاة في الخطوط السوداء المحفورة في باطن يده، يسألها عمّا ترى فتقول: أفاعٍ سوداء. يضحك الرجل ذو الشعر الأبيض والوجه الأسود، يفتح فمه واسعاً فترى مغارة كبيرة أرضها حمراء تهتزّ وتلمع... تضحك الفتاة، تفتح فمها واسعاً، تشير بإصبعها إلى داخله وتسأله إن كان لديها أيضاً مغارة كمغارته. يكوّر الرجل شفتَيه الغليظتين ويرفع حاجبَيه ويقول: مغارتك أجمل من مغارتي بكثير، فيها لؤلؤ أبيض، أما مغارتي فليس فيها سوى بضعة حجارة صفراء... 

تسمع اسمها يطير في الهواء. هناك من يناديها... هذا اسمها هي وعليها أن تعود. ينزلها الرجل عن ساقيه ويقول لها أن تسرع. تسرّع الفتاة خطواتها على الرمل الحار. لا تشعر بحماوته تحت رجليها. تسرع إلى منزل أبويها، تدخل إلى غرفتها، تختبئ تحت غطاء السرير، تفكّر في الصندوق وتهمس في أذن المرأة أنّ عليها أن تخبئ الصندوق في خواتم الشعر الأبيض. 

 

في البيت شخص جديد نزل البارحة من بطن الأم. الجميع يضحك. شعر الأم الأسود الطويل يتدلّى من صدرها وهي بدت متعبة لكنها تبتسم. الأم سعيدة بالشخص الجديد الذي لفّوه بلفافة بيضاء وراحوا يدورون به من يد إلى يد... كانوا يغنّون. جلست الفتاة بالقرب من أختها الكبرى  التي كانت تنظر بعينين زائغتن إلى الجمع المحتفل. أختهما الصغرى ليست في الصورة، ربما اختبأت تحت فراش الأم. الفتاة تتساءل عن سبب هذا الفرح. هل هو هذا الذي في اللفافة؟ 

بقيت جالسة بقرب أختها الكبرى التي قالت لها: "هذا أخونا الجديد". الأب يضحك، الأم تبتسم والآخرون ما زالوا يغنّون. تبقى الفتاة جالسة قرب أختها تفكر بأن عليها أن تخبر الرجل ذا الشعر الأبيض والوجه الأسود أنه صار عندها أخ صغير لم تكن تعرف اسمه، وحين قالوا لها الاسم وجدته قبيحاً. 

ركضت على الرمل الحار والشمسُ تلسع ظهرها ورأسها. ظلت تركض ولم تستجب لمناداة أختها الكبرى. لا تريد أن تعود، تركض نحو كوخ القش حيث الوجه الأسود والشعر الأبيض والذراعان الدافئتان. تجلس على ساقه وتصغي في خواتم الشعر البيضاء والمطرُ يضرب سقف الكوخ بقوة. المطر حين يهبط لا يعود يتوقف. توقّف الرجل ذو الوجه الأسود عن الكلام وأشار إلى المطر أمامه وهو يبتسم. نظرت هي إلى المطر وابتسمت، تذكرت الشخص الجديد الذي في البيت لكنها لم تخبر الرجل ذا الوجه الأسود عنه. أعطاها قماشة ناعمة خضراء اللون وقال لها إنّ عليها أن تربطها على خصرها وألا تنزعها أبداً، فهي سوف تحميها من السحرة والثعابين. 

ركضت على الرمل الرطب. كان دافئاً متراصّاً. راحت تراقب بصمات رجليها في الرمل وفكّرت بأنها تلاحق نفسها. كانت أول مرة ترى أثرها. ما كانت تراه يخرج من جسمها لم تعتبره موصولاً بها. هو جزء من الأشياء التي يملكها الآخرون أيضاً. أما هذه البصمات فهي فعلاً لها. يومها قرّر الأبوان إرسالها إلى جدّتها، هي وأختها الكبرى. 

 

*************

 

للمرأة في الطائرة وجه أخضر. الأخت تتقيّأ والمرأة توبّخ الأخت التي راحت تبكي. ينزل الجميع من الطائرة إلى المقهى. في المقهى مأكل ومشرب. الأخت ترفض الأكل، الفتاة تأكل وتقول لأختها إنّ عليها أن تأكل أيضاً. لكن الأخت تبكي. لماذا هي حزينة، تتساءل الفتاة. هي أيضاً حزينة لكنها لا تقول ذلك للأخت. 

 

قرب البحر تقف الجدّة. الجدّة تبتسم، بدت فرِحة لقدومهما. الفتاة تحب الجدّة. الأخت تلعب بلعبتها ذات الشعر الأسود الطويل الذي تدلى على صدرها. اللعبة تبتسم. الفتاة تفكّر بالرجل ذي الوجه الأسود، فهو يأتيها في المنام ويخبرها قصصاً تعيد هي روايتها على لعبتها ذات الشعر الأشقر الطويل. واللعبة كانت أجلستها على الطاولة الصغيرة بالقرب من سريرها. الفتاة لا تريد الذهاب إلى المدرسة، الأخت تجرّها من يدها: تعالي وإلا سوف تستاء أمّنا... تروح معها، لا لمراضاة أمّهما الغائبة لكنْ لمداراة أختها الحزينة. الجدّة تقول إنّ عليها أن تأكل الصحن كلّه فهو حين يفرغ تماماً سيمتلئ ذهباً. الفتاة تبتسم، تتذكّر الرجل ذا الوجه الأسود والخواتم البيضاء وتقول له: جدّتي تعرف قصصك أيضاً. 

 

في المدرسة لا أحد يعرف الرجل الأسود. للراهبة شعيرات في ذقنها والمعلّمة وجهها أسود. الأخت تدرس وتدرس. الفتاة لا تدرس بل تراقب الأخت وتتساءل عن سرّ إصرارها. 

صار للأخت شعر طويل أسود كشعر اللعبة، وصارت جميلة جداً. الفتاة ينسبون لها ألقاباً تشير إلى سمنتها وهي لم تكن تحب تلك الألقاب. كانت تحب الحلوى. تأكل منها الكثير، كأنها تبحث فيها عن شيء ضيّعته. تلتهم الحلوى كأنها تريد أن تتأكد من أن جسمها لن يتركها. هو لها. الجدة تدلّلها والجميع يحب تقبيلها. يلتهمونها بالقبل. يقولون إنها "تؤكل بلا ملح"... هي تكره القبل خاصة تلك التي تطبعها على خدودها صديقات الجدة النهمات. تسمع كلمة أم فلان... تتذكّر القبل المبلّلة والأنوف التي تخطف رائحتها. تتساءل لماذا يلتهمونها.

في السيارة، والبحر من الجهة الأخرى، تصادق الهواء الذي يغسل وجهها وشعرها الأسود، تنزع الحلق الذي شكّوه في أذنيها قبل أيام. تنزع الحلقتين الذهبيتين اللتين على شكل ورقة عنب. قالوا لها إنه صُنع في العراق. كذلك وضعوا لها سواراً منقوشاً بـ"المينا" في معصمها. انتزعت الحلقتين من أذنيها ورمت بهما من شباك السيارة. نظرت إلى الجدّة ثم إلى الجدّ وإلى الأخت. لم ينتبه أحد إلى أنها رمت الحلى الثمينة في الهواء.

 

*********

 

البحر أزرق وكذلك السماء. يعود الأبوان من أفريقيا مع صغيرين اثنين قيل إنهما أخواها. تنتقل الفتاة وأختها الكبرى إلى منزل آخر. تقول لها أختها الكبرى: هذا بيتنا الجديد وهذه هي أمنا، لقد عادت إلينا. الأم والأب يتعانقان. في الغرفة المجاورة يسمعان أغاني ويضحكان. الفتاة في سريرها تحلم بالجن الذي سمعت أنه يقطن البيت المهجور بالقرب من منزل أبويها الجديد. في العتمة، ترى عيني الجنيّة الخضراء التي تدلّت من أذنيها ضفيرتان تلمعان. ترى هذا الحلم مراراً، تخبره للرجل ذي الوجه الأسود والشعر الأبيض، لكنه لا يسمعها وهي أضاعت القماشة الخضراء. 

تحبّ الغوص في البحر المالح وتحب الشمس التي تحرق جلدها. لا فرق عندها بين الماء والهواء. تغطس في الماء المالح وتشعر أنها تطير في الهواء، وحين تملّ تركض على الرمل الساخن وتستمتع بلهيبه. ثم ترمي بجسمها الصغير عليه وتنظر إلى الشمس طويلا طالبة منها أن تحرق وجنتيها. تأخذ حفنة من الرمل الساخن، تجعله يفلت بهدوء وتغوص في انسيابه على زندها الذي صار أحمر. تعيد الكرّة مرات عدة. هنا لا أحد يناديها للعودة إلى المنزل. الكل من حولها سعيد بالماء والهواء الدبق. حين تشعر بالجوع، تتذكّر أنّ باستطاعتها العودة إلى المنزل. وهي، لولا الجوع والخوف من العتمة، لفضّلت البقاء على الشاطئ. البحر والموج والشمس الحارة. الرجل الأسود صار كأنه لم يكن. هنا لا أحد يناديها للعودة إلى المنزل.

©شذا شرف الدين ودار الساقي، ٢٠١٢. 

  • Grey Facebook Icon
  • Grey Vimeo Icon
  • Grey YouTube Icon
  • Grey Twitter Icon

© Chaza Charafeddine, 2016

bottom of page