top of page

حقيبةٌ بالكاد تُرى

"هناك أشخاص، لكي يعيشوا ما يبدو لهم جديراً بأن يُعاش، يلعبون أدواراً ليست في الواقع لهم. هذا بالطبع شيء حزين إلاّ أنّه، بحسب نظرة أخرى، شيء جميل". 

راينر ڤيرنر فاسبيندر

إلى حازم

فهرست

• برلين، زيارات متأخّرة

• عواصف شارع بيرليبيرغ

• ضجيج كثير من أجل لا شيء

• رميتُ السنة الفائتة، وهكذا كان

• منامٌ يأكلُ يدَه

• عمّي بارِنبويم

• “ثايثه”

 

في غضون ذلك...

• وعاء الخوف 

• مئة درجة وشنطة سكاكين

• "فورتونا" 

 

Intermezzo

• المدعوّة ه. ل. تتعثّر مجدّداً (Un Conte de Fées)

• اعترافات ت. 

 

ثلج الانتباه

• كلّ هذا البياض...

 

ملحق

• وكالة ماريّا للحَبَل بلا دنس 

• Marias Empfängnis-Agentur (النص الأصلي)

برلين، زيارات متأخّرة

الجمعة 17 أكتوبر

 

أستعيد شنطتي من فوق الشريط المتحرّك، ألتقطها بيديّ الاثنتين وأخرج. أصعد إلى التاكسي كما لو أنني في طريق العودة إلى منزلي بعد يوم عمل عادي. من شباك السيارة أبحث في الشوارع عن التغيّرات التي حصلت خلال غيابي. وفي حال كان السائق برلينياً، أسأله عن رأيه في قرار الحكومة بإزالة مطار تيغيل، ثمّ إن كان لديه فكرة عن أسعار العقارات حاليّاً، كما قد أشاركه تذمّره من أحوال الطقس في الآونة الأخيرة. في التاكسي أغادر بيروت نهائياً.

 

أنزل عند الرقم ٤٠ من شارع "مانتويفل" في كرويتسبرغ. أقف بجانب شنطتي أمام المبنى القديم حيث تسكن صديقتي لوتسيا وألقي نظرة إلى الطابق الثاني. المطبخ مضاء، أرى أخيلتهم تتحرّك. لا بد أن بِتينا هي التي حضّرت البيتزا وغيورغ هو من جلب النبيذ معه... ينزل فيليپ لمساعدتي في حمل الشنطة، وأمام باب الشقّة تقف لوتسيا. هنا لا يقبّل واحدنا الآخر بل نتعانق. غيورغ وبِتينا وصديقتها الجديدة سيمونِه كانوا في المطبخ. في برلين، المطبخ هو الصالون وغرفة الجلوس وغرفة الطعام.

 

 نجلس ونبدأ بأكل البيتزا التي حضّرتها بِتينا ونحتسي من النبيذ الذي جلبه غيورغ، وأستأنف معهم حديثهم عن الفارق النوعيّ بين المنتجات العضويّة والعاديّة، وكمّية الفيتامينات الموجودة في الأولى مقارنة بالتي نحصل عليها من الثانية، ثم عن آثار الميكرو ويڤ على الطعام وكيف أنها تقتل المواد الحيويّة فيه... أفتح علبة البقلاوة التي جلبتها معي فيتذكّر الجميع أنني كنت في "بلاد الغربة" لسنة كاملة فيسألونني عمّا إذا كنت ما أزال أنوي البقاء "هناك"، في الغربة. لا يدوم هذا الحديث طويلاً، فحماستهم لتذوّق البقلاوة أكبر مما للتحدّث في ما لا طائل له مما أكرّره كلّ سنة، وهو أنني لا أعرف. 

 

في برلين، ليس ما يستدعي العجلة، ففي اللحظة التي تطأ قدماك أحد مرافقها، تصاب بخدر ناعم وتحسب أنك وصلت إلى المحطّة الأخيرة الممكنة في هذا العالم. تظنّ أنَّه لن يفوتك شيء بعد الآن وأنّ كلّ ما قد يحصل خارجها، سبق وحصل فيها. أما ما قد يُنجز في أماكن أخرى، فله عند ساكنها طابع واقعيّ بقدر واقعيّة الصوَر التي يبثّها التلفزيون. فالانجاز هذا لن يؤثّر على مجرى حياته ولا على تطلعاته؛ وأكثر صفات المدينة ثباتاً هو إخمادها طموح المرء وتحويله إلى شخص قنوع بحاله يحسب أن ما من شيئ ينقصه.

 

نتكلّم، نأكل، ندخّن، نسمع الموسيقى، يعترف أحدنا بشيء حميم، نتابع الأكل، ينتقد أحدنا تصرّف آخر يجلس أمامه، وقد يعتذر الآخر ثمّ نكمل السهرة من دون أن يكون لهذا الانتقاد أي تبعات مزعجة. تلتقط بِتينا بقايا التبغ الذي علق على لسانها من السيجارة الملفوفة وتنفضها بإصبعها في المنفضة وتقول إنها تعبت من الحياة في المدينة وتودّ الانتقال إلى إحدى ضواحيها الهادئة حيث الإيجارات أرخص والسكان أقلّ. سأستطيع العمل بشكل منتظم أكثر في محيط هادئ، خصوصاً أنه عليّ إنجاز معرض كامل حتى بداية الربيع وأنا لم أرسم شيئاً منذ شهرين تقريباً. سيمونِه، صديقتها الجديدة، تقول إنها لا تعرف إن كانت تودّ الانتقال وإنها، بشكل عام، لا تعرف تماماً ماذا تريد ولا حتى إن كانت مِثلية فعلاً أم أن مِثليتها تقتصر على حبّها لبِتينا؛ تسند ذقنها على ساعدها النحيل وتتمتم هازّة كتفيها: "لم أستطع حتى الآن أخذ أيّ قرار في حياتي، لا في ما خصّ الجانب العاطفيّ منها ولا المهنيّ. كم أنني مملّة... ألا تظنون ذلك؟". "لا... لماذا تتكلّمين هكذا عن نفسك؟"، تردّ عليها بِتينا وهي تربّت على ظهرها بحنان. 

 

يرفع غيورغ حاجبيه ويفتح أصابع يديه ليحرّكها بـ"نبرة" دراماتيكيّة ويؤكّد لنا أن ما يهمّه في الحياة هو أن يكتب الشعر وأن تؤمّن له الدولة زجاجة النبيذ اليومية. "لا يهمّني أين أعيش، فأنا لا أستوحي من العالم الذي يحيطني في كلّ الأحوال، إنما من اللغة نفسها. المهم أن أكتب العالم بكلماتي". تردّ بتينا عليه بنبرة ساخرة: "كم أنت محظوظ لأنك لا تستمد أفكارك من محيطك! لكن كن صريحاً، ألا تطمح باعتراف محيطك بك وبأن تصبح مشهوراً!". "لا أبداً، يقول غيورغ، فهذه ليست مسألة ذات أهميّة بالنسبة لي. أنا أعوّل على عالم مستقبلي لا يشبه العالم الحالي، الذي سيفهم حتماً قراءتي للأشياء". 

لطالما ظنّ غيورغ، العاطل الدائم عن العمل، بأن ما يراه هو لا يراه أحد غيره. يحب الكلام ولحس شفتيه الممتلئتين ومصّهما أحياناً حين يتفوّه بكلماته، فيبدو كأنه يتذوّقها قبل أن "يشاركك فيها"، بحسب قوله. رأس أنف غيورغ مرفوع قليلاً وتبدو فتحتاه أشبه بعيون إضافية. تحتار حين يكلّمك بين أن تنظر إليهما أو إلى عينيه. وقد يوحي أنفه بغرور صاحبه؛ وهو، في الحقيقة، كذلك، لكن غرور غيورغ من النوع الذي لا يضرّ ولا... ينفع. 

 

في تلك الأثناء كان فيليپ قد انتهى من إعداد القهوة، ففتح شباك المطبخ ومدّ منه يده المدخنّة وبدأ يخبرنا عن الجارين الجديدين الانكليزيّين اللذين كان يراقبهما صباحاً من الشباك ذاته. يقصّ علينا فيليپ كيف وقفت الزوجة أمام زوجها، فيما ارتسمت تعابير متشنّجة ومثيرة للشفقة على وجهها، وقالت:

?Oh, sorry, look, I think I broke my finger… sorry, what shall we do 

 نظر الزوج إلى الإصبع المكسور وغضّن عضلات وجهه وقال:

!Oh my god! I have no idea 

كاد فيليپ أن يقع على الأرض لشدّة ما أضحكته هذه الحادثة، فيما هو يرويها. نحن جميعنا ضحكنا. وتابع كيف أنها رفعت يدها ذات الإصبع المكسور، والتقطت باليد الأخرى سيجارة، ووقفت حاملة الاثنتين في انتظار التاكسي ليقلّها إلى المستشفى، كما افترض فيليپ. زوجها، تابع نقل الأغراض من الكميون إلى الشقّة الجديدة وعلامات الحيرة لا تبرح وجهه. كاد فيليپ أن يقع مجدداً على الأرض من الضحك. فيليپ يحشّش أحياناً. في الحقيقة أحياناً كثيرة. يحشّش عشرين "صاروخاً" في اليوم تقريباً. لم يتغيّر فيه شيء منذ تعرّفت إليه. هو راقص سابق يعمل من وقت لآخر كموديل لتلاميذ الرسم في إحدى كليّات الفنون، وما يجنيه بالكاد يكفي لشراء جرعة الحشيشة اليوميّة. 

يمضي فيليپ وقته بين نيتشه وكارل ماركس وفوكو الذي استهدى إليه مؤخرّاً. وحين يضجر منهم جميعاً، أو حين يبدأ مفعول الحشيشة يسري في دماغه، يروح يشتم أولئك أيضاً لأنهم فشلوا في تغيير المجتمع. فيليپ لا يعجبه العجب. يحبّ برلين لأنها تنسيه أنه لا يفعل شيئا في الحياة، ومثله هنا كثيرون. 

 

يستفيق يوهان، ابن فيليپ ولوتسيا. يدخل المطبخ وهو يفرك عينيه المطبقتين… يوهان طفل رقيق ذو أنف دقيق كأنف عجوز، وأصابع مرهفة كأصابع الفراشة، لو كانت لها أصابع. عمره عشرون شهراً ويستيقظ باستمرار ليلاً لكنه على رغم ذلك يفيق كلّ يوم عند السابعة إلا عشر دقائق تماماً، بغضّ النظر عن الساعات التي نامها أو لم ينمْها خلال الليل. وحين يستفيق ليلاً، فإن لوتسيا مَن يعتني به، إذ يكون فيليپ، الذي يخلد للنوم عند الثانية أو الثالثة صباحاً، تعباً. فهو يمضي ساعات الليل منشغلاً بألعاب الكومبيوتر حيث يشنّ الحرب على البوليس.

 

يركض يوهان إلى لوتسيا فتجلسه في حضنها. ينظر إلى الجمع الذي بادر كلّ منّا بالسلام عليه. ينظر إلينا واحداً واحداً ثم يتوقف عندي ويشير عليّ باصبعه ويقول: "فاث إث داث؟ (was ist das؟-ما هذا؟). كاد فيليپ أن يقع على الأرض لشدّة ما أضحكته كلمات يوهان. في الواقع، جميعنا ضحكنا ما عداه… 

 

 

الثلاثاء 21 أكتوبر

في الصباح الباكر تلقّيت اتصالاً من أحد الأصدقاء قال لي فيه إن وضع هربرت تدهور منذ الليلة الفائتة ويستحسن أن آتي لزيارته اليوم بدل الغد. قبل عشر سنوات أصيب هربرت بالآيدز وكانت حالته الصحيّة تراجعت خلال السنة. أولف، صديقه الأخير، استقبلني قائلاً إن هربرت استفاق لتوه ومتشوّق لرؤيتي. 

حين دخلت غرفته، نظر إلي هربرت بابتسامة تشبه ابتسامة طفل عادت أمّه من العمل. كان نحيلاً إلى حدّ أنني لم أميّز تلقائياً أن ثمّة جسماً ممدّداً على السرير. جلست بقربه، أمسكت بيده وشددت عليها كما لو أنني بفعلي هذا أستمد منه القوّة. كان هربرت قد فقد شعره وكان لون وجهه ويديه رمادياً. مسح وجهي وفي عينيه لمعة حب وفرح. سألته كيف يشعر. قال إنه لم يعد يعرف تماماً معنى الكلام وإنه صار يمشي بعقله ويفكّر برجله. قال أيضاً إن جسمه لم يعد يعمل بانتظام وإنه بات يشعر بأعضائه ككتل مستقلّة الواحد عن الآخر. 

صار يسمّي جسمه "المساحة التي يعيش حولها"، والكبد كتلة متصلّبة مزروعة في ميمنة "المساحة". الكليتان بالونان رخوان فيهما نار مشتعلة. أما الأحشاء، فعبارة عن أفاعٍ تتخبّط في جوفه لا يعرف كيف يهدّئها. قال إنه الآن داخل رسم غرونِڤالد "إغواء القديس أنطوان". في هذا الرسم، نرى القديس أنطوان يعارك شياطين هي مزيج من حيوانات ممسوخة وكائنات هجينة تنقضّ عليه، تتعلّق بثيابه، تشدّه من رأسه، تنهش لحمه وهو غير قادر على الحراك. قال هربرت: ها أنا هناك؛ في جحيم القديس أنطوان، لكنني سأرتاح منه عمّا قريب... لكن كيف كان لي أن أفهم عذابات "القديس أنطوان" لولا هذا المرض... إنه جهنّم على الأرض.

حين قال جهنّم تذكّرت أن هربرت أراد أن يصبح راهباً في شبابه، ولو لم يُغرم بأحد الرهبان هناك لما ترك الرهبنة أبداً. وهذا ليس لأنه تقيّ في طباعه إنما لأن لديه ميولا للتنسّك… كان يذهب أحياناً في رحلة إلى جبل ما حيث توجد مغارات فيبقى هناك أشهراً لا يفعل خلالها شيئاً سوى القراءة وغزل الصوف. وحين يشتاق إلى صبيانه، يعود إلى المدينة ليعيش شهرين أو ثلاثة واصلاً الليل بالنهار والحشيشة بالفودكا إلى أن يصرف كلّ طاقاته "الديابوليكيّة" فيعود الى حياة الناسك. كان يعيش من حليب غنمه ومن غزل الصوف مترحّلاً في أرجاء العالم حيث التقينا في أحدها. 

 

هذا الرسم المزدوج كنا زرناه، هربرت وأنا، في كولمار قبل خمس عشرة سنة. هربرت هو من عرّفني على غرونِڤالد وفناني النهضة وعلى موسيقى "الباروك". وهو أوّل من أهداني كتاباً لنيتشه وآخر لهولدرلين. هو أيضاً من علّمني غزل الصوف، وحياكة الكنزات، وحلب الماعز، وغسل الخسّ بالماء الفاترة بحيث يعود طازجاً ووضع قشرة صغيرة من التفاح داخل "باكيه" التنبك كي يبقى رطباً. وكان يقول لي: سوف ترين، قريباً لن يعود من الضرورة الكبس على زر ما لإضاءة النور أو إجراء مكالمة هاتفية. قريباً، سيتم كل شيء عبر اللمس أو عبر الصوت. 

كان ذلك سنة واحد وثمانين من القرن الماضي. لم أعد أذكر مناسبة هذا الكلام لكنني أذكر أن الفكرة أخافتني. 

 

كانت نتف ثلج صغيرة تتساقط بهدوء؛ نظر هربرت إلى النافذة وقال: انظري، النجوم تزورنا في وضح النهار؛ وتوقّف للحظات عن الكلام سمعت خلالها أنيناً خافتاً، ثم تابع: لديّ فضول لا يطاق لمعرفة إن كنت سأرى الله حين أفارق الدنيا أم لا. وأضاف مبتسماً: لن أرى شيئاً على الأرجح.

 

في الآونة الأخيرة، حين أصبح هربرت عاجزاً عن العمل، بدأ يرسم. كان يرسم "الموتيف" نفسه: ملائكة برؤوس مثلّثة وأجنحة أقرب لأن تكون مربّعات يلوّنها بألوان مشبّعة تخالها كائنات هلوسيّة قد يرسمها الإنسان الأول. يومها طلب مني هربرت أن أختار رسما لي. كان هناك العشرات من هذه الرسوم التي لم يعرف أولف ماذا يفعل بها بعد وفاة هربرت. اقترحت عليه، يوم اتصل بي، وأنا كنت قد عدت إلى بيروت، أن نحرقها وننثر رمادها في محيط محطة "التزو"، حيث اعتاد هربرت اللقاء بصبيانه... لعل ملائكته تحميهم من الإيدز، قلت له مازحة. لم تعجب أولف الفكرة على رغم أنّني كنت متأكّدة من أن هذا ما كان سيفعله هربرت لو كان مكانه. فهو كان يحرق الرسائل والصوَر كلّ سبع سنوات، قائلاً إن على المرء أن يجدّد تاريخه تماماً كما يفعل الجسم البشري الذي يجدّد خلاياه كل سبع سنوات، كما تقول خرافة ما. والتجدّد، بالنسبة له، يقتضي محو كلّ ما لم يعد له علاقة بحياته الآنية. لم أستطع إقناع أولف؛ أخذت لوحة صغيرة، قبّلت صديقي هربرت ووعدته بزيارته في اليوم التالي.

 

----

في بيت لوتسيا، كان فيليپ يجلس في المطبخ يرسم بالحبر الأسود أشخاصاً بلا شعر ولا أفكاك يخرج من فمها دخان يتحول في أعلى الصفحة إلى كائنات غرائبيّة. لوتسيا لم تكن في البيت، ويوهان كان نائماً. 

 

الأحد 26 أكتوبر 

في الطابق الثالث من المبنى الرقم 60 في شارع پرليبِرغ، فتح لي فؤاد الباب وساعداه على وسعيهما.

جئت كي أفرز أغراضي، تلك التي أردت أخذها معي إلى بيروت، والأخرى التي قرّرت رميها. الأشياء المشتركة، كالكتب والقطع الفنيّة والسيديّات، قرّرت تركها كلّها لفؤاد. لم أرد أن آخذ شيئاً معي أحبّه. ألبومات الصور، صورنا، وضّبتها دون النظر إليها. كنت أدخلها في الشنطة على عجل كما لو أنني أقول لنفسي: أسرعي، أسرعي، لا وقت عندي لأصغي إليك. 

 

(رائحة البيت-الضوء-الأصوات، لا تزال هي نفسها. الغطاء البرتقالي الذي كنت أغطي به الكنبة العتيقة لا يزال حيث وضعته. الطاولة البيضاء المستديرة التي وجدتها ذات يوم مرميّة أمام أحد المباني، أيضاً في مكانها. التلفزيون في زاوية الغرفة نفسها. الأوراق والفواتير والرسائل الرسمية، كانت منتشرة على الطاولة بفوضى عارمة، كالعادة... كأن شيئاً لم يتغير!). 

 

كان فؤاد يعدّ الغداء. حين شممت رائحة الروزمارين المقلي بالزبدة، تذكّرت أنه طبّاخ ماهر. ماهر وسريع. كنت أنظر من شباك المطبخ فيما كان فؤاد يجهز المائدة. لقد طلوا المبنى المقابل لنا، قلت. بلى، ردّ فؤاد مستاءً، لقد جدّدوا المبنى بأكمله ولم يمسّوا الشقّ المشترك بيننا. كان باستطاعتهم أن يطلوه أيضاً! 

لم يعلّق فؤاد على قولي "لنا" وتابعنا الحديث كما لو أنني لم أنطق بها. لاحظت أيضاً أن باب المدخل طُلي بلون بنّي، أغمق مما كان عليه سابقاً. صحيح، أجاب. لا زلتَ على عهدك في الطبخ، الستيك طيّب جداً، قلت. أعددت لك الحلوى التي تحبّينها أيضاً. تقصد اللوز الممزوج بالسكر والفانيللا؟. أجل، قال مبتسماً. (يا إلهي، كيف تُدارى الرقّة؟ كيف يتّسع جسم واحد لهذا الكمّ من الحبّ؟). 

بعد الغداء ساعدني فؤاد على فرز أشياء ماضينا. كان يسألني إن كنت أودّ الاحتفاظ بهذا الكتاب أو بتلك اللوحة. إجابتي كانت تتكرّر: لا، لا داعي. احتفظ بها أنت إن أردت، أو ضعها في القبو... (إلى أن تزول عنها الذكرى…). لفؤاد كان يكفي أن أقول "ضعها في القبو مؤقتاً" كي يدرك ما أقصده. 

 

(في الحمام رحت أبحث عن كوتكس، تامباكس، فرشاة أسنان ثانية، بكلة شعر، قلم حمرة، بارفان، أقراط... ولما لم أجد شيئاً من هذا القبيل، صرت أتقصى المساحيق المنتشرة في المكان... ألا يزال يستعمل العطر نفسه؟، وذاك الشامبو لم يستخدمه من قبل... هاهو كريم الوجه... لا يزال حريصاً على الاعتناء ببشرته... خزانة المناشف لا تزال مكانها، كذلك مكان الشراشف لم يغيّره، غير أنها بدت مرصوفة جيّداً الآن... ستارة الدوش الشفافة بدت حالها مزرية "يجب علينا شراء واحدة جديدة"، فكّرت... والنبتة التي كنت وضعتها بالقرب من الشباك هناك، كبرت وصارت بحاجة لحوض أكبر...). 

 

سألت فؤاد إن كنت أستطيع الدخول إلى غرفة النوم حيث خزانة ملابسي. لا مانع، قال. 

لم أستطع منع نفسي من النظر سريعاً إلى السرير. لم يكن مرتباً ولاحظت أنه لم ينسّق لون بيت اللحاف مع بيت المخدّة. لم ينتبه إلى تلك التفاصيل وكان يعتبرها غير مهمّة. خزانتي كانت فارغة من ملابسي. قال إنه وضعها كلّها في الشنطة الكبيرة السوداء. 

 

خرجت من الغرفة وكنت تعبت من التوضيب. فؤاد أيضاً كان قد ملّ، فقرّرنا التوقّف والخروج إلى السينما. ذهبنا إلى سينما "دلهي" القريبة وشاهدنا فيلم آشينغر الأخير "عقدة بادر- ماينهوف". أحب مارتينا غيديك بغض النظر عن الدور الذي تلعبه. شخصياتها دائماً ملتبسة، قوية وضعيفة، جميلة وعادية، حقيقيّة ومزيّفة... أحسبها أحياناً غير موجودة في الواقع، وأن المخرجين يستخرجونها من أشرطة أفلام تعود إلى عهود بعيدة، ثم يلبسونها ثياباً تلائم زمننا، ويجعلونها تتكلّم عن مواضيع راهنة لكنها في الحقيقة، ليست موجودة، ليست لها هويّة ولا أقرباء... 

كان الوقت متأخراً حين خرجنا. سألت فؤاد إن كنت أستطيع النوم عنده بدل العودة في آخر الليل وحدي إلى كرويتسبرغ. قبِل على مضض قائلا: حسنا، الليلة فقط. 

 

في الغرفة التي كانت غرفة عملي حضّر لي فؤاد الفرشة. هي غرفة الضيوف الآن... تخيّلت أن الأشياء، أشياءنا، استغربت رؤيتي نائمة هناك. كيف أفسر لها أنني لم أعد صاحبتها، أنني ضيفة فحسب.

لم أستطع النوم فنهضت للبحث عن أقراص منوّم... وجدت حبوب "تايلانول" في جارور المطبخ، حيث تركتها قبل سنتين. بلعت حبة كاملة. (نمت كما لم أنم منذ أشهر، نوماً بلا أحلام ولا انقطاع. نمت، كما لو أنني متّ قليلاً). 

 

حين استيقظت صباح اليوم التالي كان فؤاد قد غادر البيت. حزمت شنطتي واتصلت بتاكسي تقلّني إلى بيت لوتسيا. حين أغلقت باب الشقة، بدوت كمن يسترق لحظة انشغال طفله بلعبته لكي يخرج، ذاك أنه لا يجرؤ على مصارحته بأنه لن يعود في المساء. أغلقت الباب بهدوء ونزلت الدرج مع شنطة مليئة بلا شيء.

 

-----

الثلاثاء 28 أكتوبر

استيقظت على صوت امرأة تصرخ بشكل هستيري ورجل يقطع صراخها بنبرة هادئة؛ إنّها الثالثة فجراً. تقلّبتُ مرّات عدّة… كان مستحيلاً معاودة النوم. نهضت ودخلت المطبخ على رؤوس أصابعي لأدخن سيجارة في انتظار أن تهدأ السيّدة. حين فتحت باب المطبخ وجدت لوتسيا جالسة تدخن سيجارة هي الأخرى. قالت إن جارتها التركية تأتيها "كريزة" مرة في الشهر قد تدوم ساعة ونصف الساعة، وربما أكثر، فلا داعي لمحاولة النوم قبل ذلك. 

حضّرت إبريقاً من الزهورات وأشعلت سيجارة. سكبت لوتسيا الزهورات وسألتني عن لقائي بفؤاد. كان لطيفاً جداً، قلت، حتى أنّه ساعدني على توضيب أغراضي. 

- هل جلبت كلّ أغراضك المتبقّية؟ 

- تقريباً... في الحقيقة، لا. تركت أشياء كثيرة.

- الوقت سيحلّ كل شيء، حتى الأغراض، ستفرغ من معناها مع الوقت... 

- أجل، أعرف، أرجو ذلك... كيف تسير الأمور مع فيليپ؟ 

- لا أدري. ربما الوقت سيحلّ أمرنا أيضاً، قالتها مبتسمة.

- ما زلت تحبينه يا لوتسيا؟ 

تمّحي الابتسامة عن وجه لوتسيا، تحضن كوب الزهورات بيديها الاثنتين وتقول: لا أعرف. لا أعرف شيئاً. 

في تلك الأثناء، كان صوت المرأة التركيّة قد خفض وعلا صوت موتور البرّاد. 

- لماذا لا تنفصلان، سكنياً على الأقلّ؟

تحفر لوتسيا خشب الطاولة بظفرها وتقول: ربما لأن الكراهية أقلّ قسوة من الوحدة، وربّما من أجل يوهان. ربما أيضاً لأنني لا أملك الجرأة لمواجهته. لا أعرف… تعالي نشاهد فيلماً ريثما تهدأ المرأة. 

اختارت لوتسيا فيلماً لفاسبندر وأعطتني غلاف "الدي ڤي دي" الذي كُتب عليه: "هناك أناس، لكي يعيشوا ما يبدو لهم جديراً بأن يُعاش، يلعبون أدواراً ليست في الواقع لهم. هذا بالطبع شيء حزين إلاّ أنّه، بحسب نظرة أخرى، شيء جميل". هذا ما قاله فاسبيندر عن فيلمه "الحبّ أبرد من الموت".

 

فكّرت لو أن فاسبندر تعرّف على لوتسيا لصنع فيلماً تدور أحداثه حول شخصية تردّد باستمرار: لا أعرف؛ ربما؛ ممكن؛ سنرى؛ الوقت، الوقت يحلّ كلّ شيء؛ كيف لي أن أعرف؟… ويسمّيه: "حيرة لوتسيا القاتلة للوقت والحبّ" على غرار عناوين أفلامه كـ: "الدموع المُرّة لپترا فون كانت" أو "حنين فيرونيكا فوس".

 

المشهد الأول من الفيلم: امرأة ثلاثينية شاحبة تنظر إلى وجهها في المرآة. تمشّط شعرها الكستنائي الأملس الطويل ببطء مضجر وتتابع النظر في عينيها المعكوستين هناك. تعرف، أنت كمشاهد، أنه لن يحصل شيء. قطع المشهد.  

المشهد الأخير: المرأة ذاتها تجلس أمام المرآة تنظر في عينيها الحمراوين، تربط شعرها إلى الخلف، تقوم عن كرسيها، تعدّل تنورتها المعكوسة هناك، تستدير، وتخرج من الغرفة. 

©شذا شرف الدين ودار الساقي، ٢٠١٥. 

  • Grey Facebook Icon
  • Grey Vimeo Icon
  • Grey YouTube Icon
  • Grey Twitter Icon

© Chaza Charafeddine, 2016

bottom of page