top of page
" مقابلة: إنديرا مطر حول رواية "حقيبة بالكاد تُرى"

جريدة القبس، شباط ٢٠١٥

• تبدو قصص الكتاب وكأنها في وداع سنوات الإقامة في برلين، خاصة القصة الاولى والثانية، حيث الصوت واللغة على حال من الخفوت الهامس؟

 

أجل، هذا صحيح نوعاً ما. إلا أن الكتاب مقسّم إلى أربعة أجزاء. في الجزء الأول، "برلين زيارات متأخرة" نصوص شخصية إلى حدّ بعيد بعضها كُتب بعد أن تركت المدينة. في الجزء الثاني، "في غضون ذلك…" نصوص كُتبت خلال الفترة الذي كنت ما أزال أعيش هناك وأسميتها هكذا لأقول ماذا كنت أفعل في غضون عيشي هناك، أي أنني كنت أكتب. الجزء الثالث "إنترميتزو" (إستراحة موسيقية)، هي نصوص متخيّلة بشكل كامل، لا علاقة مباشرة لها بعيشي في برلين إلا من زاوية أنها كُتبت هناك. الجزء ما قبل الأخير "ثلج الانتباه" يعود إلى فترة ما قبل برلين لكنني كتبته قبل سنتين أو ثلاث. وهناك جزء أخير وهو سيناريو تلفزيوني أضفته إلى الكتاب لأسباب لها علاقة بحقوق النشر ليس إلا، وهو منشور باللغة الأصلية، أي الألمانية مع ترجمة إلى العربية. 

 

• برلين هي الحيز المكاني الذي تتحرك فيه الشخصيات، لكنها، بالنسبة اليهم، مجرد محطة للانتقال الى مكان آخر. عشت لفترة طويلة في برلين وكنت على اهبة السفر دائما كما تروين؟

 

ليس تماماً. برلين ليست محطة بل هي المحطة الأخيرة. على الأقل، هذا ما حاولت قوله في قصصي وهنا تكمن المعضلة بالنسبة لأغلب شخصيات الكتاب. هم أشخاص، لكل منهم أسبابه، لا يعرف واحدهم بالضبط إن كان ما يعيشه هو فعلاً ما يريد أم أنه "يلعب" دورا ليس له. صحيح أن برلين مدينة لا تعطيك شيئاً، ولكنها بالمقابل تشعرك بأنك لا تحتاجين إلى شيء أصلاً. ربما لهذا السبب تصير لساكنها المحطة الأخيرة، وللسبب ذاته يشعر بإنه على استعداد دائم للرحيل عنها. 

 

بالنسبة لي، برلين هي مدينة متحركة دوماً لكن بشكل دائري، أي كأنها تدور كل الوقت حول نفسها. خارجيّاً، تغيرت كثيراً منذ أن انتقلت للعيش فيها: المرة الأولى بين ١٩٩٣ و١٩٩٦ والثانية بين ٢٠٠٠ و٢٠٠٧. هي تغيّرت خارجياً، صارت تشبه "الغرب" أكثر بـ"مولاته" ومبانيه السوبر مودرن، إلا أن أجواءها لم تتغيّر. فقد بقيت على ما هي: "رمادية وكئيبة تشبه فتاة حدست، منذ وُلدت بأن حياتها لن تكون سعيدة "، كما تقول الراوية في "وعاء الخوف". بعد إزالة الجدار، استقطبت برلين الكثيرين من الأوروبيين والأميركيين وصارت فجأة مرغوبة لدى الكثيرين من المثقفين بشكل عام والفنانين خصوصاً كون العيش فيها أقل كلفة بكثير مقارنة بلندن أو نيويورك أو باريس. وبرلين هي فعلاً ليست نيويورك ولا باريس ولا لندن. فهي اعتادت طويلا على العيش الهادىء لأنها في سنوات الحرب الباردة كانت مقسمة وكانت منطقة مواجهة بين المعسكرين، ولهذا هربت الرساميل الكبيرة والشركات منها الى المدن الألمانية الأخرى، كما حلت العاصمة في مدينة بون بدلاً منها. البرلينيّون الجدد، أي الذين انتقلوا إليها في العشرين أو الـ٢٥ سنة الأخيرة، يحبون الآن أن يعطوا صفة الكوزموبوليتية للمدينة إلا أنها صفة تبدو كبيرة جداً عليها. البرليني لا تهمه "الكوزموبوليتية". هو يكتفي بما عنده ولا يهمه أبداً أن يصير في مركز العالم. بل على العكس، البرليني يكره "الستْرِس" الذي يظهر في باريس مثلاً عبر غلاء المعيشة والبيوت الضيقة والسكان اللاهثين الذين نراهم في المترو أو في شوارع المدينة مهرولين حتى وهم جالسون في المقاهي. هم دائماً على عجلة من أمرهم. 

هذا المشهد لن تريه في برلين. هي كبيرة جداً لكن سكانها قليلون. يسكن فيها ٣ ملايين ونصف المليون تقريباً فيما يعيش في باريس مليونان ونصف لكنْ فوق مساحة أصغر بتسع مرات من مساحة برلين. هذا وحده مصدر للـ"سترس" برأيي. 

أريد أن أقول أن برلين تشبه القرية الكبيرة أكثر مما تشبه المدينة الكوزموبوليتية التي يدّعيها الوافدون الجدد أو يحب أن يراها بعض مثقفيها هكذا.  

منطقة مار مخايل - النهر في بيروت تذكرني كثيراً ببرلين. قبل ٤ أو ٥ سنوات، هجم عليها فنانون ومصمّمون (ديزاينرز) وفتحت فيها محال تجارية لبيع سلع فخمة، ومطاعم يأتي إليها ميسورو الحال الذين لا يمتّون للمنطقة بصلة. هي منطقة فقيرة في الأساس، اعتاد أهلها أن يعيشوا كحرفيين صغار، فهناك الحداد والنجار وميكانيكي السيارات وأصحاب الدكاكين الصغيرة والسناكات الرخيصة، وهم يعيشون بهدوء ورتابة. وفجأة تحولت شوارعهم لتستقبل أغنياء المدينة بصخبهم وسياراتهم الفارهة وعاداتهم الغريبة على أهل المنطقة. أخال أهل مخايل يتساءلون عمّا ألمّ بهؤلاء، ولماذا هم معجبون إلى هذا الحد بشارعنا الفقير والبسيط؟ وأحسب أن أهل برلين يقولون الشيء ذاته عن الوافدين المتحمسين للعيش عندهم: عمَّ يبحثون عندنا؟ ففرص العمل هنا قليلة، والطقس بارد وكئيب، والحياة باتت مرتفعة الأكلاف! ما بالهم هؤلاء؟

 

• شخصيات قصصك في هذا الكتاب يتقاسمون مع الشخصية الاساسية او الراوية القلق واللاستقرار. اشخاص مهمشون يبحثون عن شيء ما. هذا الخيط يجعل من قصصك القصيرة اقرب الى الرواية؟ 

 

صحيح، هناك دائماً جزء من الراوي نفسه في الشخصيات التي يكتب عنها واذا كنت ترين الكتاب على أنه رواية فهذا شيء جميل. إلا أنني قد لا أكون المرجع الصالح للبتّ في ما إذا كان عملي رواية أم لا. ربما الآراء الأقل كلاسيكية ونمطية في الرواية قد تدرجه في هذه الخانة.

 

 

• ثمة تمايز في أسلوب الكتابة بين كتابك الاول وهذه المجموعة: السرد العفوي، البوح...كما لو انك تكتبين يوميات خاصة؟ 

 

لا أعلم إن كان هناك تمايز في أسلوب الكتابة لجهة العفوية أو البوح. أنا أرى الفرق في "عمر" الراوية، لا في الأسلوب. "فلاش باك" كتبتْه الطفلة ثم الفتاة التي كنتُها. و"حقيبة بالكاد تُرى" كتبتْها المرأة التي كنتُها قبل ٧ سنوات. أظن أن الفارق يمكن في الأطوار أكثر مما في الأساليب. 

 

• قلت انك لا تحبين الكتابة الانفعالية او التي تحمل عاطفة جياشة "لأن الإنفعال لا يعني احداً"، في حين لم يغب الانفعال الداخلي المخنوق عن بعض القصص، لاسيما  تلك اللصيقة بك؟

 

لا أعرف إن كانت كتابتي هنا إنفعالية. ربما أنت كقارئة تستطيعين الحكم أكثر مني في هذا الموضوع. مع هذا، أظن أن هناك فارقاً بين الانفعال الداخلي بوصفه طبقات تحتية ينبغي التنقيب في النص لإيجادها وبين الانفعال الصارخ والمعلن الذي أبتعد عنه في الكتابة، أو أحاول ذلك. 

• كتبت هذه القصص قبل سنوات ولم تنشريها الا حديثا وبعد الحاح من أصدقاء. ما كان سبب ترددك في نشرها؟

 

كلمة إلحاح ربما كان مبالغاً فيها :-)… تردّدي في النشر كان نابعاً من عدم ثقتي بأن يجد الآخر، أي القارئ، ما قد يثير حشريته في هذا النص. ربما من الطبيعي أن يتساءل المرء عما إذا كان ما يكتبه أو ينجزه، في الكتابة أو أي عمل فني آخر، يهمّ الآخرين أم لا، خصوصاً إذا كان العمل ذاتياً جداً حيث يصعب الافتراض مسبقاً بأنه قابل للتعميم. أليس كذلك؟

 

 

• "هل هناك شيء غير العبث في انجاب الناس بعضهم البعض؟ كم هو مقرف هذا الشعور: شخص يلد آخر، ثم آخر يلد آخر، وكل واحد منهم له بنيان بسيكولوجي يسجن فيه مدى الحياة الى ان تأتي النهاية".  كأنك في هذا المقطع تقتربين من المقولات الفلسفية الكبرى في الوجود والعدم، لكن باسلوب بسيط ومكثف؟   

مقولات فلسفية!؟ لا، أبداً… هذا كرم منك! لكن إذا كان المقطع فعلاً كذلك فهذا ما لم أقصده بالتأكيد.

  • Grey Facebook Icon
  • Grey Vimeo Icon
  • Grey YouTube Icon
  • Grey Twitter Icon

© Chaza Charafeddine, 2016

bottom of page