top of page

كان بيكون يمزج عدّة بورتريهات ليخرج من المزيج وجه يحمل في طيّاته عدّة وجوه. ماذا فعلت شذا شرف الدين بوجهها، هو الذي يبقى وجهها رغم ما يُلقى عليه من تحويرات وانحرافات وتشويهات؟ لا تريد شذا شرف الدين أن تخلق وجهاً عامّاً لا ينتمي إلى أحد. 

لا تريد فوراً وجه اللا أحد. تريد وجهها وهي كفيلة بأن تجعله يكشف ببطء عن تاريخه، كفيلة بأن تجعله يتفتّح عن وجوه عدّة كامنة فيه، كفيلة بأن تحوّل وجهها الشخصيّ إلى لعبتها الخاصّة، بأن تحوّل بورتريهها إلى وجه اللا أحد. 

لكنّ اللا أحد ثمرة مخاض طويل وعمليّة موصولة يتخلّص فيها الوجه من أيّة سمة خاصّة ويتحوّل أخيراً إلى داخل مرعوب خائف، أي أنّ ما يطفو على الوجه وما يلويه ويطعجه ويحفر فيه هو، بالضبط، تاريخه: تاريخه الذي لا يتوقّف عند سمت أو صورة، بل يقلّب الصور والسمات ويعجنها في بعضها البعض ويستخرج من كلّ ذلك هذا الوجه العائم، الذي هو في النهاية اللا أحد الذي يبرز بعد كلّ محاولة للتعمّق في الشخص، بعد كلّ تحطيم لطبقات وعيه، بعد كلّ إيغال في بواطنه، وكلّ تفتّح لمكنونه. إذ أنّ النفس هي التي تطفو على الوجه وتحضر فيه وتلتهمه، النفس التي هي، في أعماقها، غير موصوفة وغير مسمّاة، النفس التي هي صهير والتواءات ولا تشكّل أيّ شكل. فما يظهر أخيراً على الوجه من حفر وتحوير ليس كلّ شيء، إنّما عمليّة مثابرة مستمرّة ينقلب فيها الانسانيّ إلى مُستلَب باستمرار، إلى عمليّة تحوّل وصهر وعجن مثابرة.

الوجه هو تلك الذاكرة الديناميكيّة التي لا تتوقّف عن التقلّب، إنّه يتابع من حيث انتهى النموذج البيكونيّ، يتابع تغيّره وتحوّلاته من لحظة للحظة. فما هو نحت العين ليس سوى لحظة، وإذا نظرتَ ستجد شيئاً آخر، فلا حدود لآخريّة هذا الوجه.

الوجه الشخصيّ الذي في تحوّله يغدو آخر نفسه، قبل أن يصير، في آخر مراحله، اللا أحد، هو ما نصل في ذروة تشكّله إلى كمال التشوّه. لا يكون الوجه الذي نشأ من صورة شخصيّة سوى الآخر المتحوّل في جريانه باستمرار، سوى الشيء والأداة والنفاية والتحوّل (ميتامورفوز). هكذا تغدو الأنا وقد تآكلت وتطعّجت، آخرَ مطروداً أو آخرين متّصلين يلوح منهم كلّ لحظة، وباستمرار، اللا أحد.
http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=2316&ChannelId=55638&ArticleId=2146&Author=

وجه اللا أحد

عبّاس بيضون

السفير، ١٣ تشرين الثاني ٢٠١٢

  • Grey Facebook Icon
  • Grey Vimeo Icon
  • Grey YouTube Icon
  • Grey Twitter Icon

© Chaza Charafeddine, 2016

bottom of page